عندما طلب الخلود...بقلم الأديب حيدر فليح الشمري


 عندما طلب الخلود 

قصة قصيرة 

حيدر فليح الشمري


جلس وهو ينظر على أطلال حضارة بابل يتأمل سنون مضت لا يعرف كيف سوف تنتهي ، وكأنها كالمتاهة التي تزين إحدى جوانبها ، أحداث عايشّها بل كان في بعضها هو الملك الذي حكم أحداثها ، بل استطاع أن يحكم أمم وشعوب استقرت على هذه الأرض ، يتسائل مع نفسه هل أخطأتُ عندما طلبت الخلود .؟ 


نظراته تُأجج الذكريات التي تعصف كريح لولبية صغيرة تجمعت من اللاشيء لتتشتت في ثواني معدودة ، كأنها لم تستطع أن تقاوم السكون لتثور من جديد دون جدوى ، طلب الخلاص لكنه تنازل عنه لسبب لم يعد يذكره ، رأى تلك الياقوتة الحمراء كيف خف توهجها مع كل سنة كانت تمر عليه ، كم عشقها وهام في ثنايا أريجها ، زوجته التي فارقته منذ آلاف الأول من حياته ، أولادهُ وأحفادهُ وهم صرعى يهيل بعض التراب عليهم تارة وأخرى يبكي بصوت خافت من الملل القابع خلف قلبه الشارد للمجهول الذي لا يعرفه ..


صرخاتهُ المدوية كدوي الرعد بصوتهِ الذي يهز الأجساد بقشعريرة قبل النفوس ، ليرتد صدى صرخاتهِ من جبلٍ بعيد على واديه العميق والكبير ، ليّكون اهتزاز في هواء أراد أن يصمت ويقاوم تلك الصرخات ، وإذ به يتنازل عن جبروته بذل لينقل ذلك الصدى إلى أرجاء المكان كله ،  استطاع أن يبني بعض الحضارات القديمة بالعلوم التي اتقنها من علماء فارقوه كما فارقته تلك الجوهرة التي أحبها ..


قاتل مع كلكامش وقادهُ  للانتصار ، وطلب من كاتب ملحمتهِ أن يكون الفناء مصيرهُ ، لأن صراع الخير والشر يجب أن ينتهي في وقت ما ، رغم أنه بقى يصارع ويصارع تلك القوى في كل عام ، كان شاهدٌ على الإلياذة والأوديسة بحربها الضارية ، كيف تتساقط الفرسان من صهوات جيادهم صرعى ، حجم الآلهة المزعومة التي انقسمت بين الجهتين بأجسادهم الأرضية ، المصنوعون من بقايا رماد الجهل المَعّجُون بدقيق الألمِ وتدفقُ الدماء ، رافق الاسكندر ورأى ما فعله في حروبه الدموية ، كيف استطاع أن يبيح الدماء ليجعلها طقس مع حفلاته التي يقيمها كل يوم ، كيف تتطاير على مأدبة طعامه هو ومن يجلسون معه وهم يأكلون ويتضاحكون ، حتى قام بقتل أمه وحرق روما رغم ذلك لم يشعر بنشوة الفرح الذي ظل قابعاً تحت وسادة الحزن الذي يجهل مكانها ، لم يجدها رغم أنها كانت تحت رأس أمه في غرفتها التي طواها النسيان ..


العصور الوسطى وما سبقها من حروب الفرس والرومان ، 

كيف تنتزع الأشلاء من الأجساد التائهة بين الخيول وأسنة الرماح والسيوف ، مجازر عبدة بوذا بامبراطورياتها الكاذبة والواهنة ، وظهور المغول بجبروتهم وحروبهم الكاسرة ، الحرب العالمية الأولى والثانية التي حصدت ما لم تحصده اي حرب من أرواح ، الملايين من سكان الشعوب تدمرت مدنهم وأصبح الضياع سمة وجودهم ،  ما زال يواسي نفسه كل حين ، الوحدة ، والألم ، وصراع الذات ، إنتهاء سلالته كما انتهت كل الحضارات ، الملل رغم تطور التقنيات التي شارك في معظمها ونال الجوائز بمختلف الأسماء ..


وهو يتأمل تلك الأطلال صرخ من جديد ، لكن هذه المرة بصوت خفيف ، مع ارتعاش في جسدهِ خوفاً أن ينكشف سره بعد أن أصبح كل البشر مُراقبين ، ببصمة الوجه والأصابع وكاميرات المراقبة ، زادت وحدته ، يتجول في الصحارى والغابات والمناطق النائية ومناطق القتال ، يظهر تاره ليصبح نجم من العدم ليختفي في ظروف غامضة ، يتسأل لماذا طلبت الخلود من ذلك الكائن المختفي في مغارة التوهان ، تلك العشبة النابتة على ذلك النهر الذي اختفى كما تختفي الحرباء في الصحراء ، هل حقاً هذا المسمى خلود أصبح  شقاء أضيف لشقائه ، بعد هذا التطور والإعمار ، توجه إلى تلك المتاهة ودخل فيها ليلعب كما يلعب الأطفال ، علهُ يستطيع أن يجد مخرجا ليظهر من جديد وتحت أسم جديد ونجم جديد ...


                    حيدر فليح الشمري

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تواطؤ الضوء مع ظلك...بقلم الشاعر جبران العشملي

اِنتظرتك...بقلم الشاعر صالح دويك

رفقا بنا يازمن....بقلم الشاعر البشير سلطاني

يامصر لك كل الأشعار والأدب...بقلم الشاعر حسين نصرالدين

كيف أنساك...؟!!!...بقلم الشاعر معمر حميد الشرعبي

مناجاة صب...بقلم الشاعرة روضة قوادر

مهلا...!....بقلم الشاعر محمد مطر

بيني وبينك...بقلم الشاعر حسن الشوان

المدينة الحالة.. بقلم الأديب والشاعر/محمد أحمد الرازحي رزوح

المحبة....بقلم الاديب إبراهيم العمر