ذاكرة ناقصة 5....بقلم الأديب د.علي غالب الترهوني
ذاكرة ناقصة 5….
__________________
صغيرة بحجم الكف .لكنها تحوي الكثير من الحكايات .تحيط بها أشجار السرو من كل ناحية .وتحتل الكنيسة الكاثوليكية نصف ضلع من أظلاعها الأربعة .وعلى بعد أمتار قليلة من ذات المكان يحتل مسجد الخضراء مساحة لا تقل عن ألفي مترا مربع .يلتقيان تحت سماء الله عبر حوار روحي قل ما يحدث .خارج قبة الفاتيكان وبيت الله الحرام .
كانت تستهويني كثيرا منذ صغري .وقبل أن أدخل المدرسة .كان بيت جدي يقع أسفل منحدر يفضي بعد قليل إلى سرداب يثقب ظاهر الكنيسة .وكلما أتيحت لي فرصة الهرب من الضيعة النائمة في أحضان الأولياء والذهاب إلى الخضراء .خصوصا يوم الأحد .أتسلل من البيت وأركض خلف الأقواس التى بدت مثل الستائر الصامتة .ثم أسلك درب ضيق يفصل بين بيوت الرهبان وجدار الكنيسة .وأصعد السلم الحديدي الذي يسلكه العسس. وعند نهاية القوس ثمة نوافذ دائرية بأمراش ملونة تعكس شمس الصباح على وجه العذراء التي تقف برهبة وهي تحمل ياسوع المسيح .قبل أن يتكلم في المهد .بعد لحظات قليلة تقرع الأجراس التي تعلو ظاهر المبني الكبير .حيث يقوم إثنان من العسس بسحب الحبل الذي تدلى من وسط النواقيس الفولاذية .وهو بطول أربعين مترا ليصمخ الصدى آذان سكان رأس العيد بعدها بقليل يدخل حاملي الخطايا والباحثين على صكوك الغفران في محاولة الهرب من الذنوب .يدخلون منكسين رؤوسهم في المرمر والساج البديع الذي يكسو فضاء الكنيسة من الداخل خشوعهم مريب .رغم أنهم لا يقيمون طقوسهم كما يجب .لكنهم يحبون المسيح ربما إشفاقا عليه لأنه ولد يتيما .
كنت أنتظرهم أنا ورفاقي من أولاد الناحية حتى يخرجون .وهم ينتشرون عبر الأقواس العالية بأرديتهم البيضاء ونسائهم بتنانير فوق الركب تكشف عن سيقان من العاج .كانوا ينظرون إلينا بعين الشفقة .يضعون أمامنا علب البسكويت .وزجاجات صغيرة بها سائل أحمر مثل الدم الطازج .له طعم غريب عرفنا بعد ذلك أنه نوع من النبيذ الذي يحبه القساوسة .
كلما سمع جدي بإرتيادي الكنيسة كان يغضب مني أشد الغضب .أسمعه يقول وهو يرفع سبابته في وجهي .عليك أن تصلي أولا وتتحصن بكتاب الله قبل أن تطلع على الأديان الأخرى ..كان جدي مؤذن مسجد الخضراء .وفي ذاك الزمن لم تصل الكهرباء إلى مناطقنا النائية .وكلما حان وقت الصلاة .يصعد المأذنة عبر سلم دائري بطول خمسة عشر مترا حتى يصل الهلال النحاسي .ثم يصدع بصوته الجهوري. الله أكبر .الله أكبر .وكان هذا النداء يستدعي الناس بلا تكليف .وتدخل المسجد وهي ترفع رؤوسها إلى السماء .ثم تصطف عبر طوابير لا يخترقها الشيطان .تتجه جميعها إلى مكة .تحفهم روح الله .
ظلت صورة الكنيسة والمسجد عالقة في ذهني حتى هذه اللحظة .خصوصا عندما دخلنا المدرسة فيما بعد وعرفنا أن ياسوع المسيح نبي الله مثلما محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ..
__________________
على غالب الترهوني
بقلمي
تعليقات
إرسال تعليق