مهرجان الغبار...بقلم الأديب والشاعر خالد عبد اللطيف


 "مهرجان الغبار"

في تلك الصباحات الطفولية البريئة بحي بودراع،حيث لعب الصغار لايعرف مداه ومنتهاه،والازقة المشبعة بالغبار تشارك الاطفال فرحتهم اليومية وهم يركضون عبر جدرانها الترابية التي عززت  بقطع من الزجاج تصديا لعمليات اللصوص والنشالين،وحيطان أخرى نمت فوقها نباتات نادرة وغريبة من صنف "المصاصة" المخصصة لشفاء "أم جلود" وغيرها من البثور والقروح،وكانت المعارك الطفولية بحي بودراع لاتنتهي،والزعيق والصراخ لايتوقفان ،وابتكار الألعاب ذات الطابع البدائي لاحدود لها،فمن "السلاg" الى "لكعاب" ومن " كرة التقاشر" الى " شرائط الخبيزة" ومن لعبة الحجلة"جيست" الى "الغميضة" وصنع الآلات الموسيقية من  علب الزيت الأمريكية التي تحمل شعار الكف أي التضامن،ولعبة القفز فوق ظهور بعضنا البعض.والتفنن في صنع المفرقعات المتفجرة باستعمال مادة"الكربون" عبر احتباسها داخل علب زجاجية او بلاستيكية.او لعب "لفرود" بحجارة صغيرة منقوشة بالابيض والاسود،ولم يكن الصغار يتوقفون عند هذا الحد ،فهناك لعبة مميزة اكثر إغراء وجاذبية،ويتعلق الأمر بالتزحلق من مرتفع ترابي قرب الكاريان،باستعمال قطعة بانيو المخصص لغسل الملابس،ويتوالى التزحلق طيلة النهار،وينتهي بتمزق السروال من المؤخرة،وفي المساء يكون العقاب بمنزل الأسرة على أشده ،ولكنه يبلغ ذروته في الغد بالمدرسة،إذ ما إن يشرع المعلم بضرب احدنا على مؤخرته حتى يتطاير الغبار،ويفتضح أمرنا،ونتبادل التهم في ما بيننا عمن قادنا الى مهرجان الغبار،ويسعى بعض الوشاة من قائمة القصاصين الى إخبار المعلمين،فنجلد في ذلك اليوم جلدا،ونعاقب عقابا شديدا.وبما أن السراويل في تلك الحقبة من السبعينيات كانت نادرة،كان اغلب الاطفال مكشوفي العورة لشهور،ولم تكن العائلات تملك مالا لتعويض السراويل الممزقة من الخلف،وكان من بين الحلول هو استعمال قطعة قماش عبارة عن رقعة ويتم الصاقها من خلف السروال،فتبدو معيبة ،فيتحول السروال الى خريطة ممتدة الاطراف واضحة الحدود،اما السخرية فتستمر  ايام وشهور،فيكثر الهمز واللمز بين التلاميذ،واليوم المنحوس عند صاحب  الرقع بالسروال،حين يأمرك الاستاذ ان تنهض الى السبورة من أجل إنجاز تمرين او حل عملية رياضية،او ضبط نص بالشكل التام،فتبدأ السخرية لمسات،لتتحول الى ابتسامات،ثم تصبح قهقهات،ورغم جدية المعلم فقد يشارك التلاميذ في الضحك رغما عن أنفه.ومن المصائب الكبرى أن التلميذ موضوع السخرية في وقت الاستراحة لايستطيع اللعب في الساحة بأريحية،لان التلاميذ العفاريت يظلون طيلة الوقت يتتبعون عورته،مما يدفع المسكين يسلك طريقتين،اولهما ان يحمي مؤخرته بكلتا يديه،وثانيهما أن يسند ظهره الى الحائط حتى يتمكن من حماية ممتلكاته.
ماض سحيق موغل في الشقاوة،وطفولة عذراء بلامساحيق ولارتوشات ،وكل لعبة نود الاستماع بها،تجد لها فصلا للمتابعة عند المعلم.
في الطفولة البعيدة،كان الحرمان على أشده،وكان الجوع يخترق الأجسام الصغيرة،وكان الملجأ الوحيد لسد الجوع،هو توجه الصغار الى "الصاكا" وهي اسم مكان بحي بودراع،حيث يتواجد أشهر بائعي السمك المقلي،فيعمد الأطفال الى جمع رؤوس السمك ،والشروع في أكلها ،والمحظوظ من يحصل على رأس سمكة كبيرة من صنف (البوقة أو الدركة او الباربو والصفراء..) مستأنسين بقطع الخبز التي يتركها بعض الزبناء من آكلي السمك المقلي.
وقد وجد البعض في هذه العملية ملاذا يوميا آمنا لدفع الجوع،وحماية لبطونهم الصغيرة من سغب الايام القاسية،والفقر المدقع.
لم يكن أكل رؤوس السمك المقلي مقتصرا على الصغار فقط،بل حتى اليافعين والمراهقين والبالغين وحتى الكبار يجدون لذة في تناوله،خصوصا ان الفقر هو الصفة المشتركة بين الجميع،وقد كانت طلبات السمك المقلي بحي بودراع لاتتوقف،والمهووسون بتناوله تتجاوز حدود تادلة،فقد كانت الصاكا وجهة لطالبي السمك من ساكنة بني ملال،وزاوية الشيخ والقصيبة وأبي الجعد والفقيه بن صالح،ولقد كانت طريق تحضيره تثير شهية الآكلين،خصوصا تلك الوصفة المصاحبة السمك والمكونة من الكزبرة والفلفل الحار بعد سحقهما بعناية كبيرة من طرف بائعي السمك الذين يعرفون طريقة تحضيرها ويحتفظون بسريتها ،وكلما مزجت الكزبرة بالسمكة المقلية الا وازدادت رغبتك في طلب المزيد من السمك.والجميل في هذه الأكلة انها كانت رخيصة وفي متناول الجميع،خصوصا ان السمك كان متوفرا بكثرة في نهر ام الربيع،وبنصف متر من خيط الصيد( السبيب) كنا نصطاد عددا كبيرا من السمك بكل انواعه تتعدد مستوياته.
ولم يكن بائع السمك خلال مرحلة السبعينيات من القرن الماضي يحرم اولاد حي بودراع من رؤوس السمك المقلي،بل كان يجمع لهم دزينة منها،ويوزعها عليهم بالتساوي،لانه عارف بواقعهم المزري،ووضعهم الاجتماعي المزري،كما ان السمك المقلي بالصاكا كانت له نكهته الخاصة،وهو الأكلة المفضلة للسكارى وأصحاب البلايا المختلفة..
كانت رائحة السمك المقلي تشم من بعيد،وحول الطاولات الخشبية تتجمع عشرات القطان والقطط والتي سمنت بمفعول السمك الذي اعتبر اكسير الحياة في كل دروب المدينة وازقتها.

خالد عبداللطيف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تواطؤ الضوء مع ظلك...بقلم الشاعر جبران العشملي

اِنتظرتك...بقلم الشاعر صالح دويك

رفقا بنا يازمن....بقلم الشاعر البشير سلطاني

يامصر لك كل الأشعار والأدب...بقلم الشاعر حسين نصرالدين

كيف أنساك...؟!!!...بقلم الشاعر معمر حميد الشرعبي

مناجاة صب...بقلم الشاعرة روضة قوادر

مهلا...!....بقلم الشاعر محمد مطر

بيني وبينك...بقلم الشاعر حسن الشوان

المدينة الحالة.. بقلم الأديب والشاعر/محمد أحمد الرازحي رزوح

المحبة....بقلم الاديب إبراهيم العمر