عروبة القرآن.. بقلم الأديب والشاعر/د. عبدالحميد دبوان

 من كتابي الإعجاز البلاغي للكلمة

عروبة القرآن

في البداية وقبل الدخول في تفاصيل عروبة القرآن , والسؤال عن سبب اختيار الله سبحانه وتعالى اللغة العربية للقرآن , لابد لنا من البحث عن نشوء اللغة ومتى بدأ الإنسان في التعبير عن نفسه وما يحيط به. 

والسؤال الجوهري في هذا الأمر هو : كيف نشأت اللغة ؟ . وما هي اللغة الأولى التي تكلم بها الإنسان الأول ( آدم ) عليه السلام ؟ 

ففي الحديث عن نشوء اللغة لابد لنا أن نعرفها أولاً ثم نبحث عن تاريخ نشوئها . 

يُعرَّف علماء اللغةِ اللغةَ بأنها : أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم . (1) ويزيد بعضهم على ذلك : بأن اللغة وسيلة من وسائل التعبير عن الأفكار والمشاعر والمقاصد , وهي عامل مهم من عوامل الحياة الفكرية والقومية لدى الأمم , بها يتواصل الناس ويتفاهمون , وبها ينقلون حضارتهم وخصائصهم القومية من جيل إلى جيل . (2) 

ونحن نرى أن اللغة : إنما هي ثوب الفكر الذي به يظهر إلى دنيا الناس فيعرفون من خلالها رغباتهم , ويجسدون فيها أحلامهم ويرسمون بواسطتها آمالهم وأمانيهم . 

وفي خضم البحث عن نشوء اللغة وكيف وجدت تشعبت النظريات التي طرحها العديد من علماء اللغة شرقاً وغرباً , فمنهم من ردها إلى أصول إلهية ورأى فيها لغة وقفية جاءت من الله سبحانه وتعالى, وقد أخذ بهذه النظرية قديماً سقراط وأفلاطون , أما من العرب فأخذ بها أحمد بن فارس وأبو علي الفارسي وابن حزم , واستندوا في رأيهم إلى قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ولكنهم اختلفوا في طريقة تعليم آدم اللغة من قبل الله عز وجل . هل كان تعليمه حرفياً " أي أسماء الأشياء"أم إلهاماً؟) 

وبرزت نظرية أخرى يرى صاحبها أن اللغة نشأت من محاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة . ونظرية ثالثة ترى أن اللغة اختراع بشري خالص تواضع الناس فيها على تسمية الأشياء , ثم تناقلها الأجيال وطورتها كما يرى ( ابن جني ) . ونظرية رابعة اعتبرت أن اللغة تعبير انفعالي أطلقها الإنسان تعبيراً عن سرور أحس به أو نفور من أمر ما . وقد سمى العالم ( فندريس ) هذه النظرية بنظرية التنفيس الانفعالي , وتبعتها نظرية أخرى سميت نظرية الاستعداد الفطري التي أطلقها ( ماكس مولر ) وفيها يرى أن الإنسان يمتلك القدرة على التعبير عن عواطفه وأفكاره بألفاظ يصوغها صوغاً عفوياً و وشبهها بعقارب الساعة التي تحركها النوابض . وآخر هذه النظريات كانت نظرية التطور اللغوي التي استمد أصحابها نظريتهم من نظرية النشوء والارتقاء لـ ( دارون ) . ويرى أصحاب هذه النظرية أن اللغة نشأت وتطورت على نحو بطيء يشبه المراحل التي يمر بها الطفل في تعلمه الكلام . فمن مرحلة الأصوات العفوية إلى مرحلة الأصوات الانفعالية إلى مرحلة الأصوات المقطعية ( كلمات أولية ) إلى مرحلة اكتمال اللغة . 

وإذا ما نظرنا إلى تلك النظريات نظرة شمولية نستنتج أن أصحابها أغفلوا أهم سبب جعل الإنسان قادراً على امتلاك اللغة وتطويرها من جيل إلى جيل ألا وهو جهاز النطق الذي زوده به الله عز وجل , وبه تميز مع وجود العقل المفكر عن بقية الكائنات الحية . إن اللغة كما أراها هي : إلهام رباني زود به الله عز وجل الإنسان مع هذا الجهاز النطقي والعقل المفكر الذي زينه به فامتلك ناصية اللغة وراح يطورها حسب مقتضيات العصر الذي هو فيه . 

أما اللغة الأولى التي نطق بها الإنسان , فأنا أرى بكل تواضع أنها اللغة العربية , وقد استندت في رؤيتي هذه إلى عدة أمور أرجو أن تكون صالحة . 

فأول الأمور التي أكدت ذلك كان الدراسات في علم الآثار الذي أوضح أن اللغة العربية هي الأقدم بين لغات العالم القديم والحديث وأن بدعة الساميّة التي خرج بها اليهودي النمساوي ( شلوتزر ) إنما هي افتراء واضح على اللغة العربية وكان قصده من ذلك إعلاء شأن العبرية كلغة مستقلة أراد أن يُثبَّت قدمها وأنها تسبق اللغة العربية في زمنها , ولكن علوم الآثار أثبتت أن العبرية ليست إلا لهجة آرامية قديمة , وأن الآرامية ليست إلا اللغة العربية القديمة نفسها وقد أكد ذلك الدكتور أحمد داود في كتابه العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود (1) عندما قال : ( إن البدعة السامية مختلفة وليس لها وجود ولم يعثر لهذه التسمية على وجود في أي من المكتشفات الأثرية في المنطقة العربية , والمصدر الوحيد الذي ذكر سام وأبناءه وأحفاده هو مدونات التوراة التي قام بكتابتها حاخامات اليهود . وسام كما هو معروف هو ابن نوح عليه السلام نبي الطوفان , وذكر المؤرخون أن حادثة الطوفان وقعت حوالي / 3000/ قبل الميلاد , وبالتالي فإن زمن نوح يعود إلى ذلك التاريخ , أما الزمن العربي فهو موجود قبل ذلك التاريخ بزمن بعيد يرجع إلى الألف التاسع قبل الميلاد , وبذلك لا يصح أن ننسب الأجداد إلى الأحفاد , علماً أن سام وسلالته جميعها عربية الأصل والنسب وقد كانوا يسكنون في جوف الجزيرة العربية . وأولاده كما ذكر الطبري هم : عابر – عليم – آشور – أرفخشد – لاوذ – آرام , وكان مقامه بمكة . (2) 

والأمر الثاني الذي زاد في يقيني أن العربية أصل اللغات هو ما ذكره د . أحمد داود وكذلك المستشرق الفرنسي بيير روسّي (3) في كتابيهما، وفيهما يؤكدان أن الألفاظ في الآرامية و السريانية وغيرها من اللغات القديمة أصلها عربي محض . 

يقول الدكتور أحمد : بدأ الإنسان في الجزيرة العربية أول ثورة زراعية في العالم ما بين الألف الثاني عشر قبل الميلاد والألف الثامن قبل الميلاد , ومعها بدأت أول عقيدة للخصب في العالم , وتعتمد في جوهرها الأقانيم الثلاثة ( الرجل = الزوج – الأب – المخصب , المرأة = الزوجة – الأم الحاضنة , الابن = انتاج الخصب – الثمرة . 

ولما كانت الأرض هي الرحم الذي يحتضن البذور فقد تقسمت في عقيدة الخصب وصارت الأم الكبرى ( ترمز إلى الأم ) والشمس تدفئها , وتطلع النبات والزرع فصار الأب أو الزوج رمزاً للسماء أو الشمس في عقيدة الخصب التي تعتمد دائماً على قطبين ( الذكر و الأنثى ) والسيد والسيدة . وانعكس ذلك في اللغة ألفاظاً هي ( سر , مر , رب ) وكل منها يعني السيد. فـ ( سر ) يعني في المنطقة الشرقية : السيد العلي , ومؤنثه ( سرت ) و ( سري ) ويعني ( السيدة العلية ) وما تزال اللغة العربية تحتفظ لنا بالأصل حتى اليوم . فكلمة ( سري ) يعني السيد العالي , وسراة القوم = سادتهم , والسراة : جبال مرتفعة في الجزيرة العربية , وسارة : تعني السيدة والملكة ( وهي ليست عبرية كما يظن بعضهم ) . 

وإذا ما عدنا إلى السؤال الجوهري في هذه المقالة وهو لماذا اختار الله سبحانه وتعالى اللغة العربية لغة القرآن ؟ فإننا نجد بالإضافة إلى ما ذكرناه أن اللغة العربية هي أكمل اللغات بياناً وفصاحةً , فمن استقام بيانه باللغة العربية استقام بكل لغة أو لسان آخر لأن فيها من الحروف ما لا يوجد في لغة أخرى كالضاد والطاء والظاء وغيرها من الحروف التي تجعل تعبير الإنسان أقوى وأوقع تأثيراً في معانيها من اللغات الأخرى . 

يقول د. عدنان محمد زرزور في كتابه ( مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه ) : (1) { إن اختيار لغة العرب لينزل بها آخر كتب الله تعالى للإنسان على تعدد لغات البشر و اختلاف ألسنتهم ( وهي الرسالة العالمية التي ذكرها الله تعالى في قوله ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) يشير إلى فضيلة بيانية جامعة امتاز بها اللسان العربي على كل لسان , وبخاصة إذا ذكرنا أن إعجاز القرآن أو معجزة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الكبرى جاءت متعلقة بهذا البيان ومتصلة به , بل كانت في حقيقة الأمر من جنسه , لأن الإعجاز الذي جاء في القرآن الكريم مقروناً بالتحدي . ومما يدل على هذه الفضيلة البيانية أن مَنْ استقام لسانه بالعربية استقام بكل لغة أو لسان آخر ..... } ويتابع د . زرزور 

{ ويعود السبب في ذلك على الأرجح إلى الاستخدام الأمثل للمدرج الصوتي , أو لجهاز النطق الإنساني في لغة العرب , والذي توزعت عليه حروف هذه اللغة على أتم صور التوزيع و أشملها وأدقها إذا ما قيست هذه الحروف بسائر اللغات . } 

ويؤكد هذا الأمر الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه << اللغة الشاعرة >> فيقول : ( إن جهاز النطق الإنساني أداة موسيقية وافية لم تحسن استخدامها على أوفاها أمة من الأمم القديمة أو الحديثة كما استخدمتها الأمة العربية لأنها انتفعت بجميع مخارجها الصوتية في تقسيم حروفها ) واللغة العربية تحمل كل تلك الصفات التي ذكرناها فقد حفظها الله تعالى لنا عندما انزل بها كتابه الكريم كما أكد على حفظها بقوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وأكد على عروبة هذا القرآن بقوله ( إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ) وقوله أيضاً ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) وجعلها أيضاً لغة أهل الجنة كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : 

( أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي , والقرآن عربي , وكلام أهل الجنة عربي ) (1) إن هذه الإشارات الإلهية التي ذكرها القرآن الكريم ووصف فيها اللسان العربي بأنه مبين تؤكد كلها على قيمة هذه اللغة العظيمة وعلى مكانتها العالية والرفيعة بل والمقدسة مما يدفعنا إلى الدفاع عنها بكل ما أوتينا من قوة , وأن نحافظ عليها قوية متينة خالصة من التزوير والتحريف لأنها لغة القرآن والجنة . 


د عبد الحميد ديوان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تواطؤ الضوء مع ظلك...بقلم الشاعر جبران العشملي

اِنتظرتك...بقلم الشاعر صالح دويك

رفقا بنا يازمن....بقلم الشاعر البشير سلطاني

يامصر لك كل الأشعار والأدب...بقلم الشاعر حسين نصرالدين

كيف أنساك...؟!!!...بقلم الشاعر معمر حميد الشرعبي

مناجاة صب...بقلم الشاعرة روضة قوادر

مهلا...!....بقلم الشاعر محمد مطر

بيني وبينك...بقلم الشاعر حسن الشوان

المدينة الحالة.. بقلم الأديب والشاعر/محمد أحمد الرازحي رزوح

المحبة....بقلم الاديب إبراهيم العمر