أحلام صغيرة.. بقلم الكاتب/بوغنيمي كريم

 [أحلام صغيرة]


لايتذكر عبد الغني المعنى الحقيقي للحب لكنه يتذكر انه تزوج بفتاة قروية من إختيار والدته،فكلما عاد من المدينة الى قريته للزيارة،إلا ويتكرر سيناريو -خصك تزوج- تنتجه الوالدة والخالة،وبعض نساء القرية،في إجتماعات دورية على طول مدة الغياب.

كانت الوالدة جزاها الله خير مقتنعة ان الحب يأتي بعد الزواج، وان ابنة الخالة فاطمة هي الفتاة الأنسب لي ولتحمل أعباء الحياة القاسية معنا في هاته القرية المنعزلة في سفوح الجبال،وكانت الأسطوانة المشروخة حديث أهل القرية،فاطمة لأحمد وأحمد لفاطمة،مع فارق السن -عقد من الزمن - الكئيب الذي لم يحدث فينا خللا كل تلك السنوات -المنقطعة النظير- في الكهرباء والماء وكل مقومات الحياة البسيطة ومع ان لاأحد يشتكي من هذا إلا شباب هذه القرية بعدما يأسوا من الحرث والزراعة والملل الذي يطال حياتهم اليومية بالمقارنة مع صخب المدينة وموارد الرزق فيها والتي اغلبهم لم يراها بل سمعوا فقط حكايات العائدين من جنة النعيم التي صوروها في أبهى حلة وعلى بساط من استبرق لشباب القرية،و قد كنت أعلم ان الحكاية مزيفة ولأساس لها من الصحة، وأن التباهي بالصورة النمطية الخيالية عن أهل المدينة،وعن نساءها وعن لياليها الملاح، لاتعدو سوى أكذوبة من العجائب السبعةللدنيا ،وان واقع  الحال يخالف الخيال والمعتقدات المركونة في عقول شباب القرية.

كنت كلما حضرت من المدينة الى القرية أجتمع بالشباب في مقهى صغير للعم إبراهيم الذي كان يعد لنا كؤوس الشاي على ضوء القنديل الزيتي الذي شابه صورته المصباح السحري لعلاء الدين، وكان من بين الشباب الحاضرين ثلاثة من العاملين بالمدينة الكبيرة والذي لايختلفون في تصويرهم السحري للمدينة والحياة بها،وكنت أدراك انه لامجال للنقاش وإطفاء القنديل الزيتي المعشش في عقولهم سوى يإيماءة من رأسي كلما ذكرت محاسن المدينة وعيشها الكريم،أما العم إبراهيم فوحده تاريخ من لاتاريخ له،بحكايته التي ينسجها من خياله ويؤدي دورها بإتقان متفننا بإقناعنا بعالمه السحري عن سفرياته وعن الجن العاشق، وعن المراءة المتحررة،والتي يقول عنها غزل ابي نواس في الخمر، فلاترودني الشكوك أحيانا في تطلعاته، وأماله وأحلامه الصغيرة ،وهو على وشك إقفال عقده السابع مع زوجته ام هنية التي تصغره بعقد من الزمن، بعد حياة مليئة بالحكايات والقصص الأسطورية، يتفرس ملامحنا كلما عدنا من المدينة،ويقدم لنا كؤوس الشاي بالنعناع الأخضر مبتسما بطاقم أسنانه الجديدة محاولا زعزعة معتقداتنا عن الجنس الٱخر بمبادئه التقليدية من عصر الأتراك والحرملك، مع عدم تقييده بمبادئه السمحة مع زوجته أم هنية..

 يستمتع بغليونه الخشبي ،مع بعض أصدقاءه القدامى في ركن منزوي ،لايلبث ان يعود الا طاولتنا كلما لثم لثمة من ذلك الغليون العجيب والذي يقسم بأغلظ إيمانه أنه لايتوفر إلا في قريتنا بهذه الجودة،وجودة الكييف المستعمل فيه والذي يقضي ساعات في تقطيعه وتنقيته من الشوائب الزائدة ويحرك تارة أرنبة أنفه بدون لمسها متحديا الكل في الإتيان بمثل فعلته هذه، والتي عجز الكل على تقليدها،بل يقدم احيانا بتحدى كل زائر غريب عن المنطقة،بصفقة رابحة من الكيف الكتامي،ان قبل التحدي مع علمه انه من سابع المستحيلات تحريك أرنبة الأنف بدون لمسها،فلايكاد ان يلمح أحدا من الشباب مغادرا الا ويسأله عن عدد كؤوس الشاي التي شربها عنده،فكان الشباب يسلبونه أخر قلاع رصانته بعدم تذكرهم لذلك بسبب رائحة الكيف الجيدة التي يستنشقونها في تلك المقهي المسماة - روائح- مع غرابة الإسم الا انه يذكرنا أحيانا أننا وصلنا لحد الثمالة من إستنشاق رائحة الكيف الذي يعبق به المكان.

أرض الظلام...

لايكاد الليل يرخي بظلاله على الطريق الغير معبد في الليالي المقمرة ،ونباح الكلاب على خطواتنا حتى يحركني الحنين الى العودة الى المدينة قبل الأوان ،فأسير الى مرقدي حامل في يداي المصباح اليدوي وألة التسجيل التي إقتنيتها من المدينة مترنحا بفعل عوامل التكييف الكتامي التي استنشقتها في مقهى الروائح..فأجد والدتي متسمرة أمام الباب في إنتظار عودتي وهي تهمس بصوت خافت:

{يالله طفت عليك الشمعة} ردا على تأخري الدائم كلما جئت من المدينة،فهي تدرك مدى صلابة رأي الوالد في التأخر خارج المنزل، فأتسلل الى غرفتي ،على ضوء ذلك المصباح اليدوي العتيق،وانزوي في ركن ،للإستماع للمذياع طربا  لأنغام أم كلثوم، فتمر اللحظات المعتادة ،يأتني الهاتف من الغرفة المجاورة..

إنه والدي-سي أحمد- على منوال -سي السيد- عند المشارقة،  متوعدا بصوته الجهوري- طفي داك المشقوف، ولغادي نشقفوا ليك على راسك- والمعنى واضح تهديد صريح بكسر المذياع على رأسي في حالة عدم إطفائه، فألبي الأمر على مضاضة خوفا من غضبه،لأني أعلم مدى قدرته على التنفيذ..فأوي الى النوم بقرار عسكري صادر عن السيد الوالد وبمباركة السيدة أم هنية ،والتي لايكاد ان يسمع صوتها، إلا ان تمتمتها الخافتة أدركها جيدا ،وأعلم انها غير راضية عن وضعي الحالي وحالة عزوبتي مرددة تلك الجملة الشهيرة عندي- الله يهديه ويأخد بنت ختي وجيب لينا ليفرحنا ويعمر علينا الدار -في إشارة صريحة للإنجاب الفوري، وكأني سأتزوج من أرنبة -

مع بزوغ الفجر أجدها تعجن العجين، وتوقد الفرن التقليدي بالأعواد اليابسة ،بينما والدي مازال مستلقيا على ظهره تحت ضوء شمعة بئيسة ينتظر طلوع الشمس ليخرج الى الرعي، لاتجدني الا وانا انحني مقبل يديه،تعبيرا عن الإحترام والتقدير- لايكاد ان تنفرج أساريره وانا أمد يدي الى جيبي فأسرق مني نصف ماكسبته طوال الشهور الأربعة من عملي بالمدينة-هاك الوليد واحد البركة-

لاأكد أكمل جملتي حتي يدعو معي دعاء الصباح والرضى فثلاثة ألاف درهم غيرت مسار تاريخ أبي بين غضب الأمس ورضى اليوم، وهو تاريخ يعيد نفسه مع كل إطلالة بالقرية للزيارة- سير الله يرضي عليك وينقي طريقك من الشوك- يقف متأهبا كاجندي في الحرب حصل أخيرا على غنيمته الدسمة مرددا -وا هنية عطي لمراد يفطر باش يمشي لخدمتوا ،راني غادي نخرج الغنم تسرح وجيبي ليا الفطور- فلايكاد ان ينهي جملته حتى أجد الفطور أمامي وٱختفاءه  بسرعة.

تدق الساعة السابعة معلنة عودتي الى أحلامي الصغيرة بالمدينة المليونية، فتجدني أحمل ملابسي وأغراضي الشخصية، مع المذياع المثير للجدل بسبب حشرجةالصوت

وضعفه، فأودع أم هنية ،بألف درهم  ، وإصرارها المتكرر بالعودة السريعة لخطبة العروس المنتظرة تاركا ورائي دعاءها المتواصل أخرج مسرعا الى قارعة الطريق الفرعي منتظرا ظهور حافلة النقل الوحيدة في ذلك الصباح على ذلك الطريق والتي لاتكاد ان تلوح في الأفق مع أحلامي الصغيرة في عالم التمدن بالمدينة الكبيرة.


بقلم : بوغنيمي كريم

المملكة المغربية الشريفة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تواطؤ الضوء مع ظلك...بقلم الشاعر جبران العشملي

اِنتظرتك...بقلم الشاعر صالح دويك

رفقا بنا يازمن....بقلم الشاعر البشير سلطاني

يامصر لك كل الأشعار والأدب...بقلم الشاعر حسين نصرالدين

كيف أنساك...؟!!!...بقلم الشاعر معمر حميد الشرعبي

مناجاة صب...بقلم الشاعرة روضة قوادر

مهلا...!....بقلم الشاعر محمد مطر

بيني وبينك...بقلم الشاعر حسن الشوان

المدينة الحالة.. بقلم الأديب والشاعر/محمد أحمد الرازحي رزوح

المحبة....بقلم الاديب إبراهيم العمر