بقايا إنسان.. بقلم الأديب/حسن أحمد الفلاح
بقايا إنسانٍ
كنتُ أنظرُ إلى عينيَّ ، كانتا جاحظتينِ تماماً ،أغمضتُهما علّني أرى نفسي بوضوحٍ أكثر ، لكنّني لم أرَ إلّا سراباً تغلّفُهُ أحزمةٌ كثيفةٌ من الغبارِ ، أجهدني الأرقُ كثيراً وأنا أبحثُ عن بصيصِ ضوءٍ أتماثلُ إليهِ كي أشعرَ بأنّ هناكَ في أعماقي مازالَ يعيشُ إنسانٌ ما ، كنتُ في حيرةٍ من أمري ، لم اتوانَ لحظةً واحدةً عن كينونتي المستعرةِ ، أخذتني حيلةٌ صنعْتَها فجأةً في سيرورةِ حياتي كي تكونَ لي عجلةٌ لسيرورتي المتهالكةِ تسعفني في الأزماتِ الخانقةِ ، وأنا في هذهِ الحالةِ المليئةِ بالغموضِ لاأرى إلّا بقايا إنسانٍ تتقاذفُهُ خواطرٌ بليدةٌ تفتكُ بهِ ، تجهزُ على ماتبقى منهُ ، فرحْتُ كثيراً عندما رمقْتُ بؤرةَ ضوءٍ في المدى المتناهي ، فتحتُ خطواتي كي يأخذني كلّي إلى تلكَ البؤرةِ المتراميةِ خلفَ غبارِ السّرابِ ، كنتُ أمشي ببراعةٍ منقطةٍ النّظيرِ علّني أصلُ إلى منتهايا بأقلِّ الخسائرِ ، أمتعتني اللهفةُ ، خلقَتْ لديّ عزوفاً مرعباً عن كلّ شيءٍ لم يَرُقْ لي ذلكَ ولكنّني كنْتُ أهجسُ كثيراً بأمرٍ واحدٍ علّني أجدُهُ وراءَ ذلكَ السّرابِ ، اجتهدْتُ كثيراً وأنا أمدُّ خطواتي ، أكظمُ المسافاتِ بسرعةٍ ، أنافسُ الرّيحَ ، ابتلعُ وجعي ، يقتلني أرقٌ بلا هوادةٍ ، كنْتُ أحبُّ كلَّ شيءٍ لأنّني كنْتُ أشعرُ بإنسانيّتي التي افتقدتها فجأةً ، سُلِتْ منّي عندما كظمَ الأسى أخرتي ، توسّلْتُ إليهِ أنْ يتركني وشأني لكنّهُ أبى إلّا أنْ يفعلَ بي فعلَتَهُ القذرةِ ، بدأتُ أخاطرُ نفسي بهدوءٍ ، والخوفُ يزفّهُ إليّ ذلكَ البعيدُ الذي لا أعرفُ إلى أيّ منقلبٍ ، يا إلهي ماهذا ؟ مستحيلٌ هذا !! إنّها الطّامّةُ ! لقد انتهى كلُّ شيءٍ…
وإلى لقاءٍ آخرٍ
بقلم حسن أحمد الفلاح
بقايا إنسانٍ ( ٢ )
توقّفتُ برهةً أمامَ مِنّصَةٍ ، فجعَتْها همجيّةٌ باغتَتْ المكانَ فجأةً ، وأنا أنظرُ إلى الأضرحةِ المتوازيةِ بعضَ الشيء ، رمقْتُ فتاةً تلتثمُ بوشاحٍ أسودٍ ، تجلسُ إلى جانبِ قبرٍ أتلَفَتْ جانبيهِ رعونةٌ مرّتْ من هذا المكانِ ، لم تُبْقِ على شيءٍ حتّى القبورُ مُسِخَتْ نواصِبُها لم أرَ الأشياءَ متناسقةً في المحيطِ ، آهٍ يا أنا ماذا حلّ بنا ؟ لقد أُنهكنا تماماً ، لم تفدْنا العِظَاتُ كثيراً ، لقد نَفِدَ منّا كلُّ شيءٍ إلّا شيءٌ واحدٌ ، آه يا أنا هذا هو الذي شرذمَ كلُّ جميلٍ في حياتِنا ، لقد انتهى كلُّ شيءٍ ، اقترَبْتُ إلى الفتاةِ ببطءٍ ، جلسْتْ بجوارِ قبرٍ تعاظَمَتْ حولَهُ جنانٌ خضراءُ ، وبعضٌ منَ الأزهارِ اليافعةِ التي بثّتْ في كياني الأملَ ، عندَها بدأتُ أتعافى رويداً ، بدَتْ ملامحي تتبدّلُ فجأةً ، اعتراني شعورٌ غريبٌ زجرَ صمتي ، بدأتُ أصرخُ بصوتٍ عالٍ ، آهٍ يا أنا لقد فجعتني الأزهارُ المتبرعمةُ وسطَ الحُطامِ المريبِ ، ارتجزَتْ الفتاةُ لتوّها وهي تنظرُ إليّ ببلاهةٍ ، أخذَتها براعمٌ منَ الذّهولِ المفاجيء ، بدأتْ تقلّبُ كفّيها ، تزمّ شفتيها الذابلتينِ ، تُصلحُ شالها الذي كادَ يسقطُ عن كتفيها ، وانا أصرخُ برعونةٍ هوجاءَ ، لم تُبقِ على توازني ، بدأتُ أرقصُ طرباً ، تجاسَرَتِ الفتاةُ ، زجرَتْني بهدوءٍ ، راعني شعورٌ يعتريهِ توجّسٌ ، وريبةٌ .
قالَتْ : أهدأ يا رجلَ ماذا أصابكَ ؟
نظرْتُ إليها جأشَ عليّ حزنٌ مُزِجَ بنثراتٍ من بكاءٍ متقطعٍ ، كنت أرغبُ ألّا أعودَ إلى ذلك ، بدأتْ تربّتُ على كتفيّ ، شعرْتُ بطمأنينةٍ ، يلهجُ صوتُها بداخلي ، استمرّتْ تنيخُ من روعي وهي تقولُ لي : اهدأْ يا أخي لو تعرفُ مصابي لسكَنَ روعُكَ تماماً ! سأخبرُكّ عن كلّ شيءٍ في حينِهِ…
وإلى لقاءٍ آخرٍ
بقلم حسن أحمد الفلاح
بقايا إنسانٍ ( 3 )
أيقذتني الفتاةُ من روعي الذي أخذني إلى رداءةٍ لم أكن أتوقّعها ، بدأتُ أشعرُ أنّني في ورطةٍ مع نفسي ، انهالَ عليّ ضحكٌ ممروجٌ ببكاءٍ يغزلُهُ وجعٌ عميقٌ ، لم أستطعْ أنْ أغيّرَ شيئاً من الواقعِ المأزومِ الذي دفنَ في ثناياهُ أجملَ ماتبقى لي ، وقفُتُ ببلاهةِ أرتجلُ كينونتي المفجوعةِ من انهيارٍ كانَ يتوعدني دائماً ، بل ويخاطرني ، لم أكنْ بأحسنِ حالٍ منَ الفتاةِ التي بدأت تتربعُ على مِنصّةِ قلبي ، أخبرتني عن مصابِها ، جعلتني أتوازنُ قليلاً ، تحرّرتُ من توجسي ، بدأتُ أتحدّثُ معها كأنّني أعرفُها منذُ أمدٍ ، بدأتْ تبادلني طرفاً منَ الحديثِ ، تفلّتَتْ منها بعضُ الكّلماتِ ، بدأتُ أنزوي إلى حالةٍ منَ التّقهقرِ ، نظرَتْ إليَّ نظرةً غائمةً أذابتْ كلّ مايمكنُ أنْ يتجلّدَ في وجداني المحصّن في صياصٍ من ياقوتِ عشقيَ الذي فجعني في هوجٍ أجهزَ عليّ دُفْعةً واحدةً ، بدأتُ ألهجُ بكلماتٍ تورّدتْ في حدائقِ قلبيَ المتعبِ ، تبادلْنا طرفاً منَ الابتساماتِ الموبؤةِ بنثيثٍ تبعثرَتْ من خلالِهِ مفرداتٌ كدمَتْ لواعجي ، آهٍ يا أنا ! لماذا كلّ هذا الوجومِ الذي يحدقُ بنا ؟ لا أدري أتكونُ هذهِ الفتاةُ فتنتيَ الاخيرةِ ؟ أم إنّني سأبوءُ هذهِ المرّة بفشلٍ ذريعٍ ، يغتالُني من حيثُ لاأتوقعُ ؟ توافدَتْ إلى فضائي المرهقِ أنزيماتٌ من وجعٍ عتيقٍ أغرى تناقضاتي ، بدا كلّ شيءٍ غريباً حولي ، الماء ، المطرُ ، القبورُ ، المحلّاتُ المفجوعةُ بهجرةِ زوّارها الذين كانوا يؤمّونها تعلوا وجوههم بهجةٌ يتقاسمونها برتابةٍ تقضمُ أحزانَهم المدفونةِ في الانتظارِ ، لقد تعدّدَتْ المشاهدُ ، لكنّ الرؤى مازالتْ في حالةِ غثيانٍ شديدٍ يتوعدُ كلّ شيءٍ في المكانِ ، كنتُ أخشى على نفسي من كدمةٍ مفاجئةٍ تصعقُ عواطفي التي بدأتْ تتبرعمُ كعناقيدٍ فتكَ فيها الخريف حتّى تلاشَتْ أوراقُها ، ولم يبقَ منها إلّا جسدُها العاري تماماً ، داهمني تفكيرٌ دهيمٌ ، بدا كأنّهُ ينذرني بخطرٍ يغزلُهُ صمتيَ المتفّتق في بقايايا المنهكةِ ، نظرَتْ إليّ الفتاةُ بهوجٍ غريبٍ ، وهي تتبلّغُ نظرَاتها المريبة ، كأنّها تبتزّني كي تثيرَ انتباهي إلى خطرٍ غائمٍ تريدُ أنْ من إعصارٍ جديدٍ يبتلعُ ماتبقى من حياتي المنهكةِ ، صرخَتْ الفتاةُ بصوتٍ تخنقُهُ دهشةٌ مريعةٌ صديقي احذر احذر ! انتظرني هنا سأعودُ إليك قريباً ، عندها هالني خوفٌ أغدقني بكنوزٍ من التّوجّسِ ، ماذا يحلّ في المكانِ ؟ وهل أبقى التّخاطرُ لي شيئاً حتّى أحبّهُ من جديدٍ ؟ إنّهُ الموتُ ! إنّهُ الموتُ ! .
بقلم حسن أحمد الفلاح
تعليقات
إرسال تعليق