بقايا إنسان.. 7..بقلم الأديب/حسن أحمد الفلاح

 بقايا إنسانٍ ( 7 )

لم يتوقّفْ دهيمُ الموتِ عن حاضرةِ المكانِ ، كلّ شيءٍ يحدّثُنا عن فاجعةٍ كبرى حدَثَتْ في المكانِ الذي أتعبِتْهُ رائحةُ الدّخانِ الممزوجةِ برائحةِ الموتِ ، أجلْ أدلفَ بابُ المقبرةِ قليلاً ، كأنّهُ ينذرُنا بانتهاءِ الزّيارةِ ، سمعْتُ مِواءَ قطَطٍ تتداخلِ معَ الأصواتِ المريبةِ ، والصّورِ المرعبَةِ ، لم أكترثُ بذلكَ ، جذبتي هواجسي إلى بحرٍ منَ التّفكيرِ الذي أخذَ بيدي إلى نوافذِ الخلاصِ ، ولكنْ أيُّ خلاصٍ هذا ، يا أنا ! لم أجرؤْ يوماً على اختصارِ حديثي ، كنْتُ متهوّراً بعضَ الشّيءِ عندما اقتحمْتُ خاصرةَ الظلامِ ، أبحثُ عن بقايا وطنٍ أنهكتْهُ لغةٌ لم تسعفْهُ بأيّ حالٍ ، أتعرفينَ لماذا يا أنا ؟ لأنّنا لم نكنْ يوماً لا… لا لنْ أفضحَ سرّاً اعتدْنا على كتمانِهِ ببلاهةٍ غُرِسَتْ في بيداءِ عقولِنا ، حيث أجهزَتْ على ماتبقّى من حريّتِنا التي وُئِدَتْ لتوّها ، آهٍ يا أنا ! كم أنا حرٌّ الآنَ ، أكتُبُ فحولةَ أسراري ، أصنّفُ الأشياءَ على حقيقتها ، أعطي كلّ ذي حقٍّ حقَّهُ ، ولكنْ ما الفائدةُ من كلِّ ذلك طالما أنَّ خارطةَ المنتهى رُسِمَتْ كما يريدونَ ، يا أنا لا أريدُ انْ أتهوَّرَ أكثرَ من ذلك ، كنْتُ يوماً في إحدى الأقطارِ العربيّةِ في عملٍ ما تعرّفْتُ على فتاةٍ من عائلةٍ برجوازيّةٍ ، عرّفَتني على أفرادِ اسرتها .. والدُها ، أمّها ، أخوتُها ، كانَتْ تميزُهم خصالٌ حميدَةٌ ، كنْتُ أعتقدُ أنَّ العلاقةَ ستكونُ عابرةً ، لكنّها تعقّدَتْ أكثَرَ ، احبَبْتها بشغفٍ لأنّها تحبُّ الوطنَ ، ولكنْ ما أنْ تجذّرَتْ علاقَتُنا أخطروها بسفرٍ مفاجيءٍ .. شقيقُها يريدُها أنْ تسافرَ إليهِ في البرازيل ، كانَتْ تنتظرُ منهُ جواباً ، لم تدمْ علاقَتُنا كثيراً ، لكنّها غمرَتني بعواطِفها الدافئةِ ، وأحاسيسها الرّقيقةِ ، أخبرْتُها ، قلْتُ لها : حبيبتي أنا لا اقوى على لحظاتِ الوداعِ لأنّكِ أصبحْتِ جزءاً من كياني ، لابدَ من لقاءٍ آخرٍ ولو بعدَ حين ، حبيبتي هيلين..! إنّني جئتُ إلى هذا البلدِ الجميلِ بمهمّةٍ لابدَ من إنجازِها ، سنبقى على تواصلٍ مع بعضِنا ، سافرَتْ هيلين يا أنا ، لقد حفرَتْ في نفسي أثراً عميقاً ، لم أكنْ يوماً من الأيام على ما يرام ، كانَ طيفُها يرافقني باستمرارٍ ، لا يفارقُني يا أنا ! أظنُّ أنَّ هذهِ الفتاةَ التي أمامي تعيدُني إلى نسيمِ هيلين الذي باتَ أثراً بعدَ حين ، فجأةً يصطكُ صوتُ البابِ ، يشتدُّ صوتُ المِواءِ ، أسمعُ خشخشاتٍ قريبةٍ منّي كأنّها صوتُ عظامٍ تُنْشَزُ من جديدٍ ، أو كأنّهاصوتُ سيّاراتٍ ، دبّاباتٍ تعكّرُ صفوةَ الوقْتِ ، انهياراً يمضُغُ أجسادَ البيوتِ الخاليةِ من نازليها ، بدتِ الأشياءُ ترتجفُ حولَنا ، الأرضُ تتزلزلُ تحتَ أقدامِنا ، كأنّها القيامةُ ، صرَخْتُ صوتاً قويّاً اعتقدْتُ أنَّ العالمَ قد يجيبُهُ بحرارةٍ منقطعةِ النّظيرِ ، ولكنْ هيهات… هيهات ! يا أنا ! أظنّ أنّهُ لم يسمعْنا أحدٌ ، ولكنّ الأصواتَ أشبعَتْ المكانَ رعباً ، بل وأُشْبِعَتْ بغطرسَةِ الإبادةِ ، صرَخْتُ وأنا انتفضُ على نفسي هيّا حبيبتي لقد بدأتِ القبورُ تتهاوى كما البيوتُ العامرةُ ، يا إلهي ما ذنبُ هؤلاءِ حتّى يموتوا مرّتين ، اشتدّ صوتُ انصكاكِ البابِ ، أُدلفَ تماماً ، وقفَ الضّجيجُ ، أطبقَ الصّمتُ في المكانِ إلّا من أنفاسِنا المتهالكةِ ، اختلطَتْ العظامُ بعضَها ببعضٍ ، بل وتعانقَتْ الأجسادُ الباليةِ ، لقد أصبحَ كلُّ شيءٍ يحكي قصّتَهُ بصمتٍ ، سمعْتُ الكثيرَ ، أبكتني القصَصُ بكاءً عميقاً ، يا أنا ألهذا الحدّ وصلَ بهمُ الأمرُ ؟ ماذا تقصدُ بذلك ؟ يا أنا أرجوكِ أنْ تركّزي معي لتفهمي قصدي جيّداً لأنَّ الأمرَ لا يحتملُ أكثرَ من ذلك ، صرَخَتْ بصوتٍ رعديدٍ ، آلآنَ وقد فهمْتُ ، بدأتْ أصواتُ الموتى تئنُ من وجعِ الأسرارِ الدّفينةِ التي أثقلَتْ عليهم الأمورَ ، أتعبتهم كثيراً ، ازدادَ بؤسُهم أكثرَ ، لم أتوانَ لحظةً في مساعدةِ الفتاةِ كي تتخلصَ من حطامٍ داهمَها كادَ يودي بها إلى الموتِ ، يا انا انظري إلى بابِ المقبرةِ ، انظري جيّداً ما الذي يجري هناك ؟ أرى أشخاصاً يتدافعونَ ، يحملونَ شيئاً ما ، أخشى أنّهم قادمونَ لا… لا أظنُّ ذلك ، ربّما يتهافتونَ للبحثِ عن مأوً جديدٍ… 

وإلى لقاءٍ آخرٍ مع 

حسن أحمد الفلاح



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تواطؤ الضوء مع ظلك...بقلم الشاعر جبران العشملي

اِنتظرتك...بقلم الشاعر صالح دويك

رفقا بنا يازمن....بقلم الشاعر البشير سلطاني

يامصر لك كل الأشعار والأدب...بقلم الشاعر حسين نصرالدين

كيف أنساك...؟!!!...بقلم الشاعر معمر حميد الشرعبي

مناجاة صب...بقلم الشاعرة روضة قوادر

مهلا...!....بقلم الشاعر محمد مطر

بيني وبينك...بقلم الشاعر حسن الشوان

المدينة الحالة.. بقلم الأديب والشاعر/محمد أحمد الرازحي رزوح

المحبة....بقلم الاديب إبراهيم العمر